فن

«BEETLEJUICE BEETLEJUICE»: شخصيات الماضي في عالم الحاضر

لدى المخرج تيم برتون سمعة متميزة تتخطى كونه مخرجاً لكونه أشبه بعلامة تجارية، يطلق اسمه على جماليات محددة. ربما يكون الفيلم الذي ثبت مكانته هو بيتلجوس.

future ملصق لفيلم «BEETLEJUICE BEETLEJUICE 2024»

لدى المخرج الأمريكي تيم برتون سمعة متميزة، تتخطى كونه مخرجاً لكونه أشبه بعلامة تجارية، يطلق اسمه على جماليات محددة ليس هو مخترعها، لكنه طورها ودمجها في الثقافة الشعبية، مثل الشخصيات القوطية النحيفة أو الأزياء ذات الخطوط الطولية والأجواء الجنائزية القاتمة.

ثبت برتون اسمه كمخرج مؤلف Auteur في سياق مختلف عن المخرجين المؤلفين الأمريكيين المأخوذين بجدية، فهو يميل لنوع محدد من الرعب الكوميدي، صادق وساخر في الوقت نفسه، يحتضن الغرابة ويرتدي إلهامه واقتباساته بفخر ظاهر، ربما يكون الفيلم الذي ثبت مكانته هو بيتلجوس 1988 BEETLEJUICE، من سيناريو لمايكل ماكدويل ووارين سكارين، الذي يحمل معنًى مزدوجاً فهو اسم مجموعة نجمية، كما أنه اسم أخرق يعني عصير الخنافس، جنى بيتلجوس سمعة إيجابية متزايدة على مدى 36 عام منذ عرضه الأول، أصبحت شخصياته التي تجمع بين الطرافة والطبيعة المنفرة نموذجاً أولياً لشخصيات برتون وفريق عمله الإبداعي، كما أن دمجه بين الرعب والكوميديا والمؤثرات البصرية العملية الحية أصبح ما يميزه، وهو ما طوره بعد ذلك في أفلام من الرسوم المتحركة الخالصة واقتباسات متعددة من أصول روائية وشعرية، طورها وأضفى أسلوبه الخاص عليها، وفيها حتى سلسلة أفلام باتمان.

مع تغير الذوق السينمائي العام المعاصر وتطور المؤثرات البصرية، تراجعت أعمال برتون وأصبحت أقل نجاحاً نقدياً وجماهيرياً، ظلت شخصياته مخلوقات أيقونية، وتسلل أسلوبه الجامع بين القوطية والتعبيرية الألمانية إلى الأفلام مهما بلغت رداءتها وتجاريتها، لكنه اكتسب سمعة نوستالجية ارتبطت بأفلامه في الثمانينيات والتسعينيات، هذا العام أعاد هو صياغة أحد أفلامه في سياق معاصر، فصدر الجزء الثاني من بيتلجوس بعنوان بيتلجوس بيتلجوس BEETLEJUICE بعد أكثر من ثلاثة عقود، كتب سيناريو الفيلم الثنائي ألفرد جوف ومايلس ميلر، عُرض عرضه الأول في مهرجان فينيسيا قبل أن ينتقل سريعاً إلى دور العرض في دول العالم ومن ضمنها مصر، لاقى بيتلجوس بيتلجوس ردود أفعال متضاربة مائلة للإيجابية، باعتباره عودة موفقة لتيم برتون بعد نفق الرقمية المعلبة الذي وقع فيه، فكيف تعامل برتون وفريق عمل الفيلم مع شخصيات تنتمي للثمانينيات ونقلها إلى عصر شديد الآنية والسرعة؟

شخصيات الماضي في عالم الحاضر

تدور أحداث بيتلجوس 1988 حول عائلة مايتلاندز، زوج وزوجة فتيَّان يقضيان إجازتهما في منزل على تلة في وينتر ريفر، كونتيكت، يغرق كلاهما في حادث سير غير متوقع ليجدا أنفسهما يسكنان بيتهما كأشباح، عندما تشتري أسرة من الأحياء ذلك المنزل، يصبحان أمام خيار طرد الأحياء المزعجين بمضايقتهم وممارسة الخدع الشبحية المعروفة، تعمل الكوميديا في بيتلجوس عن طريق قلب السمات الأساسية للرعب، فبدلاً من أن نرى البيت المسكون من وجهة نظر الأحياء نراه من وجهة نظر الأموات، وتصبح عملية الطرد والتخلص مرتبطة بمن يعيشون فوق الأرض لا تحتها.

الشخصية الرئيسة بيتلجوس التي يلعبها مايكل كيتون ليست هي الدور الرئيسي في الفيلم، لكنه الأكثر تطرفاً وطرافة، فهو طارد أحياء غرائبي، مقزز وأرعن ومهووس بالنساء وجالب للمتاعب، وعند ظهوره على أرض الأحياء يقع في حب الفتاة المراهقة ليديا (وينونا رايدر) ابنة عائلة ديتز الساكنة للمنزل، تمثل ليديا ميول بيرتون الجمالية؛ فتاة مهووسة بالموت ذات شكل قوطي وعينين مسودتين، منفصلة عن عالمها وعائلتها المشرقة، تتواصل مع الأسرة المتوفاة أكثر من أسرتها على الأرض.

بعد سنوات عدة في بيتلجوس بيتلجوس تقدم ليديا برنامجاً تلفزيونياً عن الأشباح والتخاطر مع الأرواح على طراز برامج الثمانينيات والتسعينيات لكن في زمننا الحالي، يرسخ الفيلم من بدايته محورين، الأول أن ليديا سلعت قدرتها وحياتها الشخصية لصالح الشهرة، الثاني هو أن بيتلجوس وبرتون بشكل عام انتقل من الإغراق في الخيال والغرابة إلى الوعي بالذات، ولجأ للشكل الما بعد حداثي للتناولات السينمائية للماضي، يتعامل بيلتجوس بيتلجوس 2024 مع بيتلجوس الثمانينيات باعتباره أثراً متحفياً، دخيلاً على العالم الحقيقي، بسخرية ماكرة ووعي بكون الشخصيات إضافة قديمة على عالم جديد، وهو ما يصلح أن يكون مجازاً لوجود الفيلم نفسه كمنتج قادم من عصر آخر إلى العصر الحالي، لكنه في الوقت نفسه يحاول أن يستعيد صدقه القديم عن طريق موضعة حبكته لتكون جسراً بين جيل وآخر، بين ليديا وابنتها أستريد (جينا أورتيجا).

جينا أورتيجا في BEETLEJUICE BEETLEJUICE 2024

وينونا رايدر ومايكل كيتون في BEETLEJUICE 1988

تصدق ليديا في الأشباح والطبيعة الماورائية للعالم لأنها رأتهم بالفعل، بينما تنظر أستريد لوالدتها باعتبارها متوهمة، تمثل ليديا بشكل أو بآخر عالماً أكثر سيولة وبساطة، عالماً يحتضن الغرابة كما هي، بينما تمثل أستريد عالماً معاصراً أكثر جموداً وتشككاً، يعطيها الفيلم شخصية واقعية متجهمة مهتمة بالمناخ والبيئة، لكنها على تفتح عقلها وثقافتها تنبذ أي شيء لا تراه.

يعمل الفيلم الجديد نفسه باعتباره امتداداً لشخصية أستريد، فهو فيلم متشكك لا يحتضن غرابته، كما أن موضعة وينونا رايدر كأم لجينا أورتيجا هو محاولة أخرى لرتق ذلك الجسر وتسليم جيل لآخر، تمثل أورتيجا لمراهقات اليوم ما مثلته رايدر في التسعينيات، ميل للغرابة والقتامة والوجوم، بوجه متجهم وروح حرة، رسخه دورها المعاد تدويره كذلك في مسلسل وينزداي Wednesday المنبثق من فيلم من سلسلة عائلة أدامز Addams family.

عالق بين الماضي والحاضر

ما يلاحظ بشكل مبدئي في بيتلجوس لعصر المنصات الرقمية والاستهلاك السينمائي هو غموض وسيولة تناوله الزمني، فهو يقع في العصر الذي نعيشه حيث الإشارات للهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي ونتفلكس، لكنه يحضر جماليات ريترو نوستالجية من الثمانينيات كما هي، فيصبح أشبه بهجين زمني وسينمائي، يريد أن يستدعي الأجيال التي تألف بيتلجوس وأعمال برتون، وفي الوقت نفسه لا يغرب الأجيال التي تخطت الرعب الكوميدي والرسوم المتحركة غير الواقعية، وجماليات صناعة الأفلام المنزلية وتقدر بشكل أكبر الواقعية المفرطة والمؤثرات البصرية المتخطية للحقيقة، تصبح تلك المحاولات هي ما يثقل الفيلم أكثر من أي شيء آخر، محاولات إقحام مرجعيات الثقافة الشعبية للجيل زد مثل ثقافة تحسين الصحة والتنمية البشرية أو هوس الشهرة وتسليع الحياة كمحتوى استهلاكي، بل إن الفيلم يفعل ذلك داخلياً من خلال حبكته وكتابته نفسها، في محاولة لإرجاع الخيال والسحر إلى جيل مغرق في هوس الواقعية المفرطة، لكنه بذلك لا يقرب الجمهور الجديد أو يرضي جمهوره الأصلي، بل يقع في منطقة وسطى غائمة تفكك الفيلم وتجعله دون وحدة سردية حقيقية.

يمكن تفصيل عالم برتون السينمائي، وخاصة عالم بيتلجوس، إلى عنصرين أساسيين، الزيف Artifice وتجاور الخيال مع الواقع، الزيف في عوالم برتون زيف متأصل داخل الحياة المَعيشة، زيف بصري يتمثل في بناء المصغرات ووجود نسخ من العوالم داخل العوالم نفسها، كما أنه يتمظهر في تصميم الشخصيات والخيارات المتعلقة بالمؤثرات البصرية التي تبتعد عن الواقع لصالح شكل أكثر براءة وطفولية من الرعب وكأنه عالم بأكمله مصنوع من أزياء الهالوين.

في بيتلجوس بيتلجوس يتحول الزيف من الأمر الواقع إلى زيف مضاف على العالم كأنه مقحم وغير متداخل، وهو شكل يجعل الفيلم يتحدث بشكل أوضح لجيل غير الذي يأتي منه برتون أو يصنع له أفلامه الأولى، يمكن الشعور بذلك داخل دور العرض نفسها أثناء المشاهدة، ليس كل الحاضرين خاصة من السن الصغيرة على معرفة بعوالم برتون، وخاصة بيتلجوس، يقدم الجزء الجديد - وهو ما يحسب له - جماليات وميولاً مشابهة للأصل، لكنه يفسرها كلها أو يجعلها أكثر غرابة من الواقع، فيبدو الواقع واقعاً والخيال خيالاً دون تجاور، في حين أن بيتلجوس نفسه امتلك التيمات والبصريات اللونية نفسها، سواء في عالم الأحياء أو الأموات.

كاثرين أوهارا وجينا أورتيجا في BEETLEJUICE BEETLEJUICE 2024

يبتعد بيتلجوس الجديد عن بساطة الخط الرئيسي للفيلم الأصلي، ويلجأ لتشعيب الحبكة لحوالي ثلاثة أو أربعة خطوط، متمنياً أن يتلاقى كل خط مع نوعية ما من المشاهدين، فنشهد مثلاً قصة جانبية لامرأة فاتنة (مونيكا بيلوتشي) كانت زوجة بيتلجوس في أحد الأيام تسعى للانتقام وتلتهم الأرواح، بسحبها من الأجساد الميتة في شكل رعب أكثر معاصرة من شكل الرعب البريء الذي تقدمه شخصية بيتلجوس، كما يحوي الفيلم خطين لرجلين مستغلين بأشكال مختلفة، أحدهما من عالم الأموات، جيرمي (أرثر كونتي) شاب يستدرج أستريد لكي يستبدل روحها الحية بروحه الميتة، والآخر هو روري (جاستن ثورو) المهووس بالتنمية البشرية وثقافة الصحة والعلاج النفسي الذي يتضح أنه يسعى وراء ليديا من أجل أموالها وشهرتها، وعلى لسانه يضع الفيلم نكاته المعاصرة الساخرة لخلق ما يشبه التعقيب على ثقافة الشهرة وزيف التنمية البشرية والكسب السريع.

يقضي الفيلم حوالي نصف وقته يحاول موضعة عالمه القديم داخل الجديد، لكنه يسترجع نفسه فعلاً قرب النهاية حينما ينحي الحبكات المعاصرة جانباً ويصنع تتابعاً غنائياً راقصاً مليئاً بالأفكار البصرية الطازجة على الرغم من كلاسيكيتها، فيعطينا لمحة عن الإمكانية الممكنة إذا لم يهتم صناعه كثيراً بجعله يتأرجح بين الماضي والحاضر.

يمكن وصف بيتلجوس بيتلجوس بأنه عودة جزئية لتيم برتون كمخرج ذي أسلوب ثري، حيث فتح مساحة لتجنيب الواقعية الرقمية المفرطة واستكشاف الأساليب التقليدية من جديد، كما أنه يحوي مساحة أوسع لمايكل كيتون في دور بيتلجوس، وهو ما افتقده الفيلم الأصلي، يعود كيتون وكأنه لا يزال شاباً، بأداء لافت، بذيء ومضحك، لكن تلك الاستدعاءات النوستالجية صادمها محاولة جعل الفيلم معاصراً وذا صلة ثقافية بالحاضر، فأصبح هجيناً مثيراً للضجر أحياناً، لكنه تجربة مختلطة، بها ما يمكن الاستمتاع به أو على الأقل تقديره فنياً.

# سينما # السينما العالمية

فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب
الهوى سلطان: أن يصنع الزمن مأزقاً رومانسياً

فن